# # # #
   
 
 
[ 28.11.2009 ]
شارع لتخليد ذكرى التهامي محمد عثمان من قادة ثورة 1924 ـ د. عبد الله علي ابراهيم




صحيفة الراي العام

تمر هذا الشهر الذكرى الأربعين لوفاة المغفور له السيد التهامي محمد عثمان من طلائع العمال أعضاء جمعية اللواء الأبيض التي قامت بثورة 1924 وعضو فرع الحزب الشيوعي بالحلة الجديدة بالخرطوم. فقد قضى «5» سنوات في سجن كوبر لدوره في تلك الثورة كما سيرد. والتمس في هذه المناسبة من ولاية الخرطوم أن تخلد مآثرته بإطلاق اسمه على الشارع الذي يقع خلف داره بعشرة بيوت الحلة الجديدة بالخرطوم الذي يمتد من شارع الحرية داخلاً الحلة.

نعيت التهامي بكلمة عنوانها «التهامي محمد عثمان: من اللواء الأبيض إلى اللواء الأحمر» (أخبار الأسبوع 27 مارس 1969). وفيها عبت على صفوة الخريجين إضرابها عن الحديث إلى الشباب عن سابقتها الوطنية خلال عهد الفريق عبود (1958-1964) خشية عقابه. وجربت ذلك حين سعيت إلى خريج قطب لامع أدعوه باسم جمعية الثقافة الوطنية للحديث إلى طلاب جامعة الخرطوم عن ماثرة الخريجين. فأمتنع. إلا التهامي. فلم يكن يسعده مثل الحديث عن حركة «24»، أول ما عرفته كان على صفحات مجلة «صوت المرأة» التي قابلته ليروي ذكرياته الوطنية. ثم دعوناه للحديث لنا بجمعية الثقافة الوطنية بالجامعة بالمدرج «102»، وجاء رجلاً ربعة قوي البنية صارم الملامح صقري العيون وبشارب كث أبيض كلوزتي قطن. وقف على المنبر بزيه المميز: رداء يكاد يكون بنطالاً لطوله وقميص أبيض تعلو رأسه عمامة حسنة اللفائف. ولم نصدق أنه جاء مصطحباً ابنتيه ( ثريا وسعاد) المشرقتين النضرتين. فلم يكن غشيان البنات المنتدى بصحبة ولي الأمر عرفاً أو توقعاً.

ثم اتصلت به ليحاضر تلاميذ مدرسة الجمهورية الوسطى بأم درمان لصاحبها المرحوم عبد الحفيظ هاشم بحي الصقور ببانت قريباً من مقابر حمد النيل. ودرَّست بالمدرسة موسم 1963-1964 وهي الفترة التي أوقفتني الجامعة فيها مع زملائي أعضاء لجنة الاتحاد بسبب مظاهرة عشوائية اندلعت خلال حفل تخريج عام 1963 وفي حضور مدراء الجامعات الأفريقية. وجاء التهامي وتحدث ما وسعه. ثم أهديناه في خاتمة المناسبة علم اللواء الأبيض صممه التلاميذ من وصف له بكتاب عن ثورة 1924 للسيد مامون بابكر الريح.

والهمتني رواية التهامي لدوره في ثورة 1924 كتابة مقالين بمجلة «صوت المرأة» في 1963م، أخذت فيهما على الكتابة التاريخية عن الحركة الوطنية افتتانها بالمقاومة فيها على حساب استبطان قواها وحركتها وعواقبها. وحاولت من رواية التهامي للثورة قراءة السلوك الطبقي لقواها. وتوقفت عند مظاهرة 26 يونيو 1924 التي ما كانت لتكون لو غلب رأي «الأفندية» في قيادة الحركة. فقد أراد الأفندية التوقف عن التظاهر حتى تنجلي ذيول مظاهرة 23 يونيو التي سبقتها من حيث تعبيرها السياسي ومصير القادة المعتقلين. وقاد التهامي خطة قيام مظاهرة ثانية بقوة ونجح. وأذاع بين الناس أنها ستكون مسلحة وتخرج من غابة الخرطوم. وصرف بذلك أنظار الحكومة عن السوق ليفاجئها بالتظاهرة تشتعل منه. وغاب عنها أفندية القيادة ولم يلب النداء سوى عامل آخر من الحركة هو السيد عبد الكريم السيد. ولحقت الشرطة بالمظاهرة بالسوق العربي قبل أن تتجه إلى الأحياء الشعبية. واعتقل التهامي وهو يعض بالنواجذ على علم اللواء الأبيض. وقدمه لمأمور السجن المصري أمانة ترد في وقتها.

وربما كانت هذه المقالات القصيرة هي بذرة ما أحاوله الآن من كتابة تاريخ الحركة الوطنية لا كتاريخ لحركة الأفندية ومؤتمر الخريجين فحسب بل كجملة حركات وطنية منها حركة العمال الوطنية وحركة النساء الوطنية وحركة المزارعين الوطنية وحركة الجنوب الوطنية وحركة الهامش الوطنية. بل كنت رتبت حضور منتدى في الجامعة الأوربية بإيطاليا لحضور ندوة عن حركة العمال الوطنية في البلاد العربية في آخر هذا الشهر. وربما لم اذهب ولكن ورقتي للمنتدي قد سبقتني إليه. وعرضت طرفاً منها بمحاضرة قريبة لي بنادي الخريجين بمدني وتأملها الحضور بإنتباه.

ثم عرفت طريقي إلى دار التهامي بعشرة بيوت بالحلة الجديدة. وقلت في نعيّ له أن الطريق إلى غرفته لا تظلله ردهة أو جبلية أو حديقة غناء. فهو مجرد «ممشى سهل ومحفوف بالورع والبشاشة والأبوة لطلاب الحقيقة . . . وعلى نفس هذا الممشى السهل الرحب يسير طالب الحقيقة إلى حيث تقيم ثورة 1924 كياناً من الورع والتقوى والحزن». وعلى هذا الممشى «اتصلت خطواتي نحو مشرق شمس 1924» يملي عليّ التهامي وأكتب. فملأت دفتراً منه تبرعت به إلى صديق كان بحث ثورة 1924 ولم يعد الدفتر. وشبح دفتر التاريخ الهالك هذا يؤنبني وينغص عليّ نومي.

بقي معي من أحاديث التهامي أمران غامضان لم اتفرغ لتحريهما بعد. أولهما الخلاف الذي نشب بالسجن بين السيد علي عبد اللطيف وجماعة ذكرها. فأعتدى أحدهم على قائد الثورة بجردل على أم رأسه أسفر عن الذهول المعروف عنه وهو رهين بحر الغزال ثم مصر حيث توفي رحمه الله. أم الأمر الثاني فهو شهادة ملك من أحد أعضاء جمعية اللواء الأبيض غير السيد على حاجي الموثقة.

توقفت في مرثاتي للرجل عند التحاقه بالحزب الشيوعي خلال فترة الرئيس عبود. وحدست أن ذلك كان محض حيوية من الرجل. ومن وجوه هذه الحيوية أنه أنشأ جمعية لمحاربي ثورة 1924 القدامي. وقد أَمِل أن الحكومة الوطنية في السودان المستقل ستريهم آيات العرفان المستحقة. وحفيت أصابعه كتابة إلى وجوه الحكومة وحفيت أقدامه سعياً إلى وزارة الشئون الاجتماعية (وعلى رأسها السيد يحي الفضلي) التي أحالوه لها. وكان التهامي أشد ما يكون غضباً لهذا التجاهل. ويبدو أنه أختار ان يحكى ذكرياته على الملأ بمثابة ترياق ضد مرارات انصراف الحكم الوطني عن من بذلوا الغالي حباً للوطن والحرية. ولست واقفاً عند الملابسات المخصوصة التي طلب التهامي بها أن يلتحق بالحزب الشيوعي ليشفى من أحزان اللواء الأبيض بوعد اللواء الأحمر. ولكنني رأيته في 1965 خارجاً من المركز العام للحزب الشيوعي جندياً غاضباً أدى نبطشيته في حراسة المركز من المتربصين به لهدمه في سياق الحملة المعادية للشيوعية التي انتهت بحل الحزب من فوهة البرلمان. وقد عدته يوماً خلال نقاهته بعد علاجه في موسكو على منحة استشفاء وفرها له اتحاد العمال. وكان سعيداً راضياً مرضيا.

آمل أن تستجيب ولاية الخرطوم لإلتماسي بتخصيص شارع يحمل اسم الفقيد. فسيرطب هذا العرفان قبر فقيد الوطنية الباسل التهامي محمد عثمان الذي هو من غمار الناس. وسننفض عنه غبار إهمال تأذى منه لو عرفته الأجيال الطالعة في لوحة على شارع قريب من نبضه العذب في داره المتواضعة.

(أرجو أن يعينني الوراقون من القراء بالعثور على الجزء الثاني من مقالي بجريدة صوت المرأة. فليس بين يديّ سوى المقال الأول وعنوانه «حول السلوك الطبقي في ثورة اللواء الأبيض»).   

نقلا عن موقع "رماة الحدق" alhadag



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by